بعد أيام من الترقّب والقلق الذي ساد في أوساط البريطانيين والعالم، تأكد الاسكتلنديون في تمام الساعة 6:08 من صباح يوم الجمعة الماضي -بتوقيت جرينيتش- بأنهم لا يريدون الانفصال عن المملكة المتحدة، ولا أن تتحول اسكتلندا إلى دولة مستقلة. وفي أحد فنادق العاصمة الاسكتلندية «جلاسجو»، اجتمع قادة الحملتين المؤيدة والمعارضة للاستقلال من أجل متابعة النتائج على الهواء مباشرة. وكان وقت انتظارهم قد طال إلى الحد الذي شعروا معه بأن لديهم متسعاً من الوقت للاستماع إلى بعض المعزوفات الموسيقية الوطنية، وبدأوا بممارسة بعض الرقصات الشعبية المستوحاة من التراث الاسكتلندي العريق. وكان نشطاء الحملة المؤيدة للاستقلال يستمتعون أكثر من غيرهم في هذا الجو المحموم من الانتظار والترقّب. ففي وقت متأخر من ليلة الخميس، وجدت رهطاً من «جيش تارتان» Tartan Army، وهو تعبير يطلق على هواة تشجيع فرق كرة القدم في اسكتلندا الذين اشتهروا بسلوكهم المهذب وتصرفاتهم المتحضرة، وكانوا يعدّون العدة لإعلان الانتصار في نتائج الاستفتاء. وكان نشطاؤه يرتدون التنانير الكلتية (السلتية) المصبوغة بقطاعات مربعة ملونة بالأحمر والأزرق والأخضر، ويحملون مزامير القِرَب التي اشتهروا بها، والبالونات الملونة، وراحوا يعدّون الدقائق المتبقية على حلول لحظة الحسم. وقال أحدهم، وهو من عازفي مزامير القِرَب وقد سبق له أن سافر في عدة رحلات إلى إيرلندا الشمالية، وواحدة إلى العراق: «ما من شك في أننا سننجح. وهناك شيء إيجابي نناضل من أجله وهو الاستقلال. وعندما شاهدت النشطاء من مؤيدي الاتحاد وعدم الانفصال عن المملكة المتحدة، بدا لي وكأنهم غير سعداء». وتابع التعبير عن طموحاته فقال: «لو أنك لاحظت الحماس والطاقة المتدفقة والاندفاع، وهي الصفات التي يتحلى بها منظمو حملة "نعم" للانفصال، فلن تفكر بعد ذلك في الحاجة لنفط بحر الشمال الذي يسخّره الوطنيون الاسكتلنديون لتمويل حملتهم المؤيدة للاستقلال». وفيما جاءت النتائج بنسبة 55 في المئة للمصوتين ضد الاستقلال و45 في المئة لمؤيديه، صادمة لهم، إلا أنهم قرروا عدم الرضوخ والاستسلام. وهذا ما أكد عليه زعيم «الحزب الوطني الاسكتلندي» المؤيد للاستقلال أليكس سالموند في حديثه للصحافة حول الهزيمة حيث قال: «لقد أوضحت سكوتلندا أنها لا تريد الاستقلال في هذه المرحلة بالذات». وهذا يعني بكلمة أخرى أنها قد تنشد استقلالها في مرحلة مناسبة أخرى. ويبدو أن كلام «سالموند» صحيح وفقاً لاعتبار واحد على أقل تقدير. فعلى رغم النتيجة التي فاز فيها المصوتون بـ«لا» للاستقلال، إلا أنهم اعترفوا أيضاً بأن الاستفتاء قد غيّر كل شيء وبدّل كافة المعطيات التي كانت سائدة قبله. والآن، يتحتم على الحكومة البريطانية المركزية في لندن أن تفي بوعودها التي قطعتها خلال اليوم الأخير للحملة التي سبقت الاستفتاء بتدعيم اقتصاد اسكتلندا وتقوية وضعها السياسي والإداري، وذلك بهدف تجنّب أي محاولة لإجراء استفتاء مشابه في المستقبل، خاصة أن بعض دعاة الاستقلال قالوا إنهم سيكررون المحاولة حتى تحقيق مطلبهم. بدوره تحدث رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون في كلمة ألقاها صباح الجمعة، عقب الإعلان عن نتيجة التصويت التي أنقذته من «الموت السياسي» طالما أنه سيتهم بأنه الرجل الذي عمل على تفتيت المملكة المتحدة لو كانت النتيجة جاءت معاكسة، مؤكداً أنه سيطلق أيادي الاسكتلنديين وراء الحدود الشمالية، في إجراء التعديلات التي يرونها مناسبة على دستور إنجلترا، ومقاطعة «ويلز» أيضاً. وليس ثمة من شك في أن هذا الإجراء سيتصف بالكثير من الفوضى وسوء التأويل والتفسير. ولاشك أيضاً بأن المصوتين بـ«نعم» للاستقلال ستنتابهم مشاعر الغضب والغيظ وخيبة الأمل. إلا أن السكوتلنديين والبريطانيين بشكل عام، حققوا بهذا الاستفتاء إنجازاً نادراً. وأنا أعتقد أن هذا الإنجاز كان ذا قيمة معنوية عالية بما تسبب به من مشاعر الفخر التي تتفوق حتى على المشاعر الوطنية والقومية. فلقد سئل الاسكتلنديون في الاستفتاء سؤالاً من النوع الذي عادة ما يؤدي إلى نشوب الحروب في دول العالم الأخرى، وراحوا يتناقشون فيه ويتحاورون بشأنه لمدة طويلة، وقالت أغلبيتهم «لا» للاستقلال، وقبل دعاة الانفصال أيضاً بالنتيجة. وكان هذا السؤال ذاته قد تم توجيهه إليَّ من طرف مجموعة من الصحفيين الصرب خلال المراحل الأولى للحروب التي نشبت في يوغوسلافيا غداة تقسيمها. وكان نص السؤال: ماذا يمكن أن يحدث لو أن اسكتلندا أعلنت انفصالها عن بريطانيا. وكان من المستحيل إقناعهم بأن الإجابة بكلمة «لا» على الانفصال، لن تؤدي إلى نشوب حروب كتلك التي حدثت في صربيا وروسيا. كما أن إنجلترا ليست من طراز الدول التي تعالج مثل هذه الأمور بتحريك الدبابات بل عبر التصويت الحر والشفاف. وها نحن الآن قد أثبتنا للعالم ذلك بالفعل. ولا تقتصر أهمية هذا الاستفتاء على البريطانيين وحدهم، بل لقد أرسل عبر الأثير مؤشرات إيجابية إلى الكثير من الدول والحكومات العالمية الأخرى التي تعاني من انتشار العقليات الانفصالية، خاصة في دول البلقان، وفي هذه الظروف الدقيقة التي تمر بها الآن. وقد أوحت للانفصاليين الكاتالونيين (في إسبانيا) وغيرهم بأن من الممكن لدولة انضمت إلى اتحاد فيدرالي منذ عام 834، أن تقرر الانفصال عن الجسم السياسي الاتحادي لمجرد اعتقادها بأن ذلك ينسجم مع مصالحها وطموحاتها الخاصة. وبالنسبة للحكومة الاتحادية المركزية في لندن، لم تتردد في تشجيع اسكوتلندا على ممارسة حقها في اختيار المنهج الذي يحقق لها أفضل النتائج. إلا أن هذه الدولة صوتت فعلاً لصالح البقاء متحدة مع الدولة الأم.. أي المملكة المتحدة. ويا له من درس في الديمقراطية مفيد للجميع. ----------- مارك شامبيون: محلل سياسي أميركي ------------ يُنشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفيس»